ليس المقالح وحده من يأوي إلى "يوتوبيا" أرض الأحلام؛ فقد سبقه فلاسفة ومفكرون وشعراء، يتزعمهم أفلاطون في كتابه "الجمهورية" وتوماس مور في كتابة "يوتوبيا" 1516م، وتوماس كامبانيلا في كتابه "مدينة الشمس" 1623م، وبعده فرانسيس بيكون في كتابه "أطلنطس الجديدة" 1627م، وهكذا ظل هذا الملجأ يخيم على كل من ضاق خناقه وتعذر مقامه من مبدعين وفلاسفة منذ أفلاطون وحتى اللحظة.بعد مضي خمسة عقود ونيف على الشاعر عبدالعزيز المقالح من عمره الإبداعي بمختلف أصنافه وتشكيلاته الشعرية والنقدية والفكرية، ظل طيلتها حالماً وعائماً وسطه يكابد ويصارع الزمن بغية تحقق حلمه ببلد ينعم بالرخاء والسخاء على أبنائه المنهكين الذين مزقتهم التصدعات المتوالية جيلاً بعد جيل، وباعتباره واحداً منهم، من جيل رغب في إحداث الفارق على أرض الواقع والعزوف عن ذلك الشرخ الجاثم والسواد القاتم الذي استوطن بلد العربية السعيدة، الذي غدا مسكوناً بلعنة التسمية النائية عن واقعه التراجيدي، والذي ما برح أحد يشفق عليه، غدتْ التسمية أطلالاً والمسمى أشباحاً تسحق وجوده وتنتشل جذوره من أعماق اسم ضارب في أعماق التاريخ.كانت العربية السعيدة يوتوبيا قائمة، كمدينة فاضلة استقام عليها الرخاء، واستوطن النظام والقانون أرضها، وشيّد أبناؤها الحضارة ورسموا لهم مكاناً يليق بهم اسماً ومسمى لترى فيهم الأجيال المتعاقبة النموذج الأسمى والأرقى الذي يفترض أن يكون عليه وضعهم، لكن ذلك بات شيئاً يشبه اليوتوبيا، ذلك الشيء اللا متحقق والذي لا وجود له، تلك الصورة الخيالية ليوم ما كانت عليه اليمن، وها نحن نطاردها حتى في صورتها الخيالية كما فعل شاعرنا المقالح في نصه الأخير "يوتوبيا".وهنا يتقارب عمر الشاعر إبداعياً وعمره نضالياً بصورة مشتتة آلَ مجدها إلى حطام وتفرقع زهوها كغبار واختفى الوطن كهلام، ما أشعر هذا الإنسان أن حلمه أُجهض وأن يومه قد لقي حتفه، فما الذي بوسعه فعله أو بمقدوره تغييره؟ فما كان منه إلا أن يهجّ إلى هناك.مثل هذا المقت والبخس الذي تعيشه اليمن حالياً، تكفل جلياً بإعادة الشاعر إلى أرض "يوتوبيا"، تلك الأرض المجنحة بالحب والسلام والتي لا تطأها قدم ملوثة بالدم والخراب، فلا ملاذ سواها له، ولا مكان يتسع له هنا بعد أن تفشى الكيد والمكر، وانبرى الحقد يجرف ما يقع عليه بصره، وهذا ما لم يقدر الشاعر على صده أو اعتراض مسعاه؛ لأنه يفوق ردة فعل مناوئة منه أو من غيره.يتخذ الشاعر قراره ويشد الرحال إلى أرض يوتوبيا مبعثراً ما تبقى من حطامه المنهك الذي عجز مؤخراً عن حفظه وإبقائه مصاناً بالسكينة والسلم، فنراه يعزم على الأمر بالقول:سأتركُ في وطن الحربِما أبقت السنوات العجافمن الجسد المتهالك أتركهوأطيرُ بروحي إلى عالمٍليس فيه بكاءٌ على طلل الوقتأو تتغشّاه حربُ ضروسٍتسوق القرابينَنحو مذابحَ لا شيء فيهايباركه الربلا شيء فيها لخير البشر.....سأترك بين يديه ذنوبيوما اقترفَ القلب من حلمٍوعواطفَ جيّاشةوأمرُّ على قبر أميلأودِعَها ما تجدّد من ذكرياتي مُذ رحلتْوأنجو بجلد القصيدةِتلك التي هي نبضُ دميوأفرُ إلى عالمٍ ليس تسفك فيه الدماء..هكذا يحلم الشاعر؛ أن يفر بجلد القصيدة التي نالها نصيبٌ من الفتك كونها نابضة في دمه وفي شرايين وطنه.ومنذ وصوله أرض النجاة "يوتوبيا" يصدح بالنبذ والنكران لأرض لا تحفل إلا بالحرب كاليمن التعيس، بقوله:تلك أرضُ الحروبولا شأن لله في ما جرىفوقها أو سيجري..وما إن تخطو أقدامه "يوتوبيا" لا يتردد في رسم صورتها وتبديد ملامحها وتقديمها كلوحة زُينتْ بأبهى حلة وأبهج مكانة، تثري القلب بناموس الحب والوله، كما في قوله:هنا أرضه وسماواتهحيث تجري شؤون الحياةكما شاء سبحانهبين ناسٍ هم الناسُفي مدنٍ يعجز الشعرُ أن يتخيلهاوقرى كاللآلئ منثورةٍفي سفوح الجبال وقرب الشواطئغير ملوثةٍ بالسياسةصافية ومبرأةمن قذى الانتماءات والتفرقة....أرض "يوتوبيا"لم تلدها القصائد والأمنياتولا أبدعتها من الغيب أشواقناهي قائمة منذ بدءِ الوجودولكننا لا نراها بأعيننا الكابيات،هنا الصبحُ ما زال فيها طرياًنقياً شفيفاً كما كانساعة أن بدأ الكون رحلته،لا ينكر الشاعر صلته بها، فهي حلم يراوده منذ الصغر، يرغب بارتدائه كلباس ندي وناعم:آه "يوتوبيا"كنتِ طيفاً جميلاًيرافقني في الطفولةِضوء كتابٍ يداعب أخيلتيفي الشباب،وأغنية تترقرق ألحانهافي انسيابٍ بديعيضيء ليالي الكهولة..والآن جئتُ إليكِ بروحيفمدي يديكِخذيني ولا تتركينيعلى حافة الهاوية.ولا بد أنها رقت لبؤسه وشقاوته فمكنته من نفسها واحتضنت أساه، واستتبت روحه فيها وطفقت تغوص في التأمل بما ترى وتسمع من مباهج الألفة والرخاء، إذ يقول:بشراً ما أرى أم ملائكة؟نورهم يتقدم أجسادهموأحاديثهم مثل همس الطيوروهم يعملون كثيراً ويستمتعون كثيراًحالهم مثلما حدثتنا الرسالاتعن جنة الخلدأشجارها لا تشيخوأزهارها تتحدى الذبول.....هدوءٌأرقُّ من الصمتِأحنى على الروح من همساتِ الكَمنجةفي الليلة القمريةيوشك أن يتعالىصدى قطرات الندىحين تسقط ناعمةفوق ما افترَّمن ورق الوردة النائمة..وبعد هذا البوح الشفيف عن أرض يوتوبيا الأحلام، يوتوبيا المُثُل، لا ينصاع الشاعر لأسطورتها بل نراه ينشدها واقعاً كما ذكرنا آنفاً منذ كان لاسمه صدى في اليمن، حين كانت سبتمبر هي الطريق المؤدي إلى يمن يوتوبيا، ويا ما كان البتر ينخع سبتمبر من الخاصرة، لتتعثر خطى الشاعر وتضيع بين متاهات البؤس والانتكاس المشؤوم، وهنا يؤكد أنه لولا انعدام يوتوبيا الحقيقة ما عزم الذهاب لها حلماً:كلُّ أرضٍ على الأرضأو في السمواتِمغمورةٍ بالسلام كما ينبغيهي "يوتوبيا"وإليها تسافر أحلامناتورق الكلماتوتنشر أنداءَها،السلام الذي تتلألأفي ظله الكائناتُوليس كلاماً تردده ألسنُ العابرينوتكتبه صحفُ اليومِبالأحرفِ البارزة.وقد يستهجن الشاعر هراءه في ذلك العالم الوارف كلما أراد أن ينصب نفسه شاعراً في موطن عليك أن تحلق بجناح روحك وتترك الكلمات تصارع يأسها، كما في قوله:دعِ الكلماتِ بعيداًوعِش حالةً من نعيمٍومن غبطةٍلا توفرها رعشةُ الكلماتولا شطحاتُ الخيالِفأنتَ هنا ضيفُ "يوتوبيا"حيث لا ندمٌ يعتريكولا خوف يتبع ظلكيرصد أنفاسك الذابلاتكما كان حالُكفي بلدٍ لا ينامويرقد تحت أزيز الرصاص..يعلل الشاعر انزياحه إلى العالم الذي ارتمى في حضنه، بأنه خالٍ من نصل حاد وقاتل كالسلاح والخناجر ومؤن سفك الدماء وتدني مؤشر الألفة والانجرار إلى التخاصم الفج الذي يقود إلى الفتك والفناء، كل هذه الموبقات هي ذاتها التي عززت تسامقه نحو الابتعاد عن مكان قنوطها، واندثار البقاء بجوارها فتحتم عليه الفرار منها إلى عالم الفضيلة:إنه عالمٌ فاضلٌوفضيلته أنه لا سلاح بهلا خناجرَلا شيء يومي إلى الحربكلُّ النفوس أنابتْإلى ربهاوارتضتْ بالتعايش في ألفةٍوكذا الجنة الأمتلك التي وعد الله من خلقهالمؤمنين..ينهي الشاعر نصه اليوتويبي بالجزم والإصرار القاطع على استبقاء روحه التي وجدت ذاتها هناك، حيث لا شرر يتطاير ولا أبواق تدق طبول الحرب ولا أطفال يصرخون من الفقد والجوع ولا وباء يجرف الصغير والكهل دون مواربة، تقيم الروح المقالحية بنيانها في يوتوبيا وكأنه برزخها المأمول، يضاعف تشبثها بهذا المصير النظر من هناك لهذا الصخب المدوي في أرجاء اليمن وتفشي صراخه في كل قلب وإحداثه جرحاً في كل روح وجسد، لها الحق أن تقيم أينما رغبت لقد نفد منها بيننا الكثير وكابدت أكثر من ذلك، فلا ضغينة أن تستتب على شواطئ يوتوبيا إلى الأبد:لن أعود إلى العالم الدنيويإلى العالم الدمويسوف أبقى هناحيث روحي معلقة بفضاءٍمن الأمنياتيصلي لأهليويبكي على وطنأثخنته الحروبوخانته حكمتهثم ألقتْ به حيثُ لا أمل يرتجىأو غدٌ واعدٌتتجلى إذا ما دناآية المعجزات.من التعسف المجحف احتساب هذا النص المؤلم تمثُّلاً لعالم شعري لا يمت لهذا الواقع الذي يقيم فيه الشاعر بِصلة دون الاعتداد بالمصاحبات الزمانية والمكانية له، والتي شكلت خناقاً مطبقاً لروح الشاعر ولوطنه وكبتاً لنَفَس القصيدة التي يرتبط الشاعر معها ارتباط الروح والدم وكأنهما ولدا معاً، حال النص لم يكن معنياً أن يظهر ببناء مجسم ولغة فارهة وصور مبرقعة بقدر انشغاله بالكمد الذي يفتك والفرار والمخاطرة بالوصول للمبتغى..نص يقوله الشاعر وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويقرأ عبره الشهادة وتفيض روحه إلى بارئها، نص يستنجد بيوتوبيا بعد أن أُتلفت أرض العربية السعيدة أو اليمن السعيد، وباتت موطناً للهلاك واحتداماً للمعارك ومرقصاً لأباطرة وأمراء الحروب فأتلفوا الحرث والنسل والقصيد دون إشفاق أو أخذ قيلولة للاسترخاء من شره وناره.أختم قراءة الألم بالقول: إن الشاعر ابن الثمانية عقود قد وجد ملاذاً في يوتوبيا، فهل من الممكن أن يرحل إلى هناك شعب بأكمله تعثرت كل السبل أمامه للبقاء في أرض حمير.